بُترت قدمه… فصنع آلاف الأطراف الإصطناعيّة! تعرّفوا على صاحب هذه القصّة الإنسانيّة
سلبت الحرب إحدى قدميه، إلا أن “أنس” لم يرتض الخنوع، فتأبط إيمانه بما قسم له القدر، ليلج عالما جديدا يواكب خلاله يوميات الحرب الإرهابية التي اجتاحت مدينته، عبر تلك النوافذ الضيقة لكرسيه المتحرك.
في تلك الأيام من عام 2014، سلكت حياة الشاب (أنس حاج عوض) منعطفا حادا بعدما طالته إحدى قذائف القصف العشوائي على حيه، إلا أنه لم يلبث أن أعاد الإمساك بمساراتها، بعدما حول عجز جسده إلى قوة حياة، مستبدلا حزن روحه ببعض من ذلك الفرح القليل المتاح في تلك الأيام.
أول يوم من افتتاحه، دخل أنس إلى مركز التأهيل البدني الذي افتتحته لجنة الصليب الأحمر الدولية بمدينة حلب، ليحمل رقم المستفيد رقم (1) من بين أقرانه من ضحايا الإرهاب.
بعد عام واحد فقط، خرج “أنس” من المركز سيرا على إرادته الصلبة، وفي جعبته تسمية (فني خبير في المعالجات الفيزيائية)، وصانع محترف للأطراف الصناعية، ليبدأ رحلته التي قصرها على الأخذ بيد الآلاف من أقرانه ممن فقدوا أجزاء عزيزة من أجسادهم، منهمكا أثناء صقل الأطراف التعويضية لهم، بنحت البسمة على شفاههم من جديد.
كذبة الأول من نيسان
بكل الشغف ومحبة العمل، يسرد صانع الأطراف لـ “سبوتنيك” لدى زيارة لمركز التأهيل البدني، بدا وكأنه متصالح مع حياته، جفّفَ العرق المتصبّب من جبينه وأرخى كمامته الطبية سارداً تفاصيل معايشته للحرب وإصابته بقذيفة.
في ذلك اليوم الأول من (نيسان/ أبريل) عام 2014 سقط الشاب الرياضي أرضاً تكسرت يداه وبترت قدمه اليمنى، وتكسّرت القدم اليسرى بعد سقوط قذيفة، لقد حمد الله أنه نجا من الموت لم يصدق بعضهم الحادثة بل أخذ الكثيرون يستنكرون النبأ وردوا ذلك إلى ما يطلق عليه (كذبة أول نيسان) التي درج عامة الناس على تبادلها في هذا اليوم من كل عام كنوع من الدعابة ويقول:
“تجربتي مع الطرف ليست سهلة لأن فقدانَ جزءٍ من الجسم أمرٌ كارثي لا سميا أنني رياضي أتمرن لمدة ساعتين باليوم، وكذلك تقبل الطرف ليس سهلاً أيضاً، عملي كان بمثابة فرحة لا يمكن وصفها، خاصة أنه في المركز ذاته ترك انطباعاً كبيراً كوني أعمل لكل المصابين ولا أنسى فرحتهم إثر تركيب كل طرف صناعي في جسمهم المبتور، العمل ردَّ لي الحياة”.
فرحة العيون الحزينة
لقد تابع أنس علاجه حتى بداية 2015 وبعد المعالجة الفيزيائية والدعم النفسي تناهى إلى مسامعه بأن الصليب الأحمر عازم على إطلاق مركز للتأهيل البدني كان شغوفاً للحصول على الدعم وتوّاقاً لأن يعود كما كان أو بالحد الأدنى من نشاطاته السابقة، مستفيداً من خبرات اللجنة الدولية، فكان من أول المستفيدين وحمل رقم (1) في إضبارة عمل المركز، وبعد خضوعه للعلاج الشامل تهيأت له الظروف عبر توفير فرصة للعمل كمساعد فني في نفس المركز الذي تلقى العلاج به.
يروي صانع الأطراف الصناعية “عملت مع المركز منذ بداية افتتاحه والعمل فيه بفريق صغير حتى كبر، هذا العمل ليس سهلاً، يتطلب الأمر إلى إتقان، ما يميز عملنا كونه عملاً إنسانياً، لقد صنعت آلاف الأطراف خلال هذه الفترة، ولا أصف لك كم السعادة التي أشاهدها في عيون المستفيدين إن كان طفلاً أو امرأة لأني أعلم جيداً حالتهم وأقدّر كثيراً مشاعرهم”.
لقد تزوج أنس وكون عائلة يروي أنه تلقى الدعم من قبل أهله الذين منحوه الرعاية والاهتمام يضيف: “عند ما وضعت الطرف في جسدي عادت لي الحياة، الإنسان المريض هو من يعيش مع إعاقته، لا بد أن نواجه الحياة”.
خدمات إنسانية
في غضون ذلك تتحدث الموظفة الميدانية في قسم الصحة بمركز التدريب البدني السيدة سوزي جزماتي عن صلابة أنس وتماسكه وقدرته على التحدي حتى تخطى هذه المرحلة بكل جدارة، في حين تشير إلى الخدمات الواسعة التي يقدمها المركز من إعانة خدمات إعادة تأهيل متكاملة، ونشاطات الإدماج الاجتماعي، وخدمات إعادة تأهيل متكاملة، كتركيب الأطراف الصناعية والتي يطلق عليها أجهزة تعويضية لمبتوري الأطراف، وتقويم الحركة وتصحيحها نسميها الأجهزة التقويمية، بالإضافة إلى توفير العكازات والكراسي المتحركة.
وتقول السيدة جزماتي في مستهل حديثها لـ سبوتنيك عن مراحل الخدمات التي تقدم للمركز لأصحاب الأطراف المبتورة “بعد تخرج المستفيد نحيله إلى قسم مشروع سبل العيش الذي يحقق معاير معينة ومنها أن يكون لديهم إعاقة حركية نتيجة إصابة أو مرض بعد سنة 2011 مع أولوية للإصابات الحربية، حيث يساعدونه على تقديم فكرة مشروعه الخاص سعياً لتأمين استقلال مادي، وكل ذلك يجري بعد إحالة من فرع الهلال الأحمر العربي السوري، في عيادة حي الصاخور الطبية تقييم الحالة الأولية، كما يوجد هناك مركز في الفرقان، وفرق جوالة في معظم مدينة حلب وريفها، يقوم فريق برصد الحالات وزيارة ميدانية لها تسهيلاً للمصابين لصعوبة الحركة”.
وهناك حالات تتطلب معالجة فيزيائية يعمل فريق الهلال على تنفيذها قبل إيصالهم للمركز وحتى تكون جاهزة لتركيب الطرف الصناعي، وتلفت النظر بأن المريض بعد عملية البتر في المشفى لا يستطيع تركيب الطرف ويتطلب فترة قد تصل من ثلاثة إلى خمسة أشهر ليتماثل للشفاء ويأخذ الجذمور الشكل اللازم لتركيب الطرف.
يأتي ذلك أيضاُ بتشاركية مع مديرية الصحة، في مشفى الرازي والذي يتم استخدامه حالياً كمركز عزل بعد انتشار مرض كورونا، مع محاولة تجري حالياً لإعادة تفعيل عيادة إعادة التأهيل الفيزيائي الموجود في المشفى بعد إعطاء إحالة من ذات المشفى عن كل حالة بتر.
معايير القبول
جميع الأشخاص الذين يعانون من إعاقة حركية، ويحتاجون إلى طرف صناعي أو جهاز أو مقوّم أو كرسي متحرك ومرحلة العلاج الفيزيائي ما بعد تركيب الجهاز، والأولية للجروح الحربية وحالة البتر للأطراف السفلية، والأطفال والسيدات التي ترعى العائلات والمعيلون للأسر أو القادمون من مناطق صعبة الوصول لمحدودية إقامتهم في المدينة، جميعهم يمكنهم الوصول إلى مركز التأهيل البدني عن طريق العيادات المتخصصة للهلال الأحمر.
في المقابل يقدم المركز الخدمات للأطراف العلوية ولكن بشكل محدود.
لا تخفي السيدة جزماتي ضغط العمل الثقيل الذي يقع على كاهل الكادر التقني والفني، حيث تبلغ القدرة الإنتاجية بين 50 إلى 70 طرفاً صناعياً في كل شهر، وتقول:
“تأثرنا بجائحة كورونا، واضطررنا إغلاق المركز لثلاثة أشهر بسبب الحجر المنزلي العام الماضي، إلى أن عاد المركز تدريجياً إلى عمله ونتابع بشكل دوري أي إصلاح بالطرف أو التعديل عليه، حتى أنه بعد عامين يحتاج الطرف إلى تجديد”.
الحروب.. عدو الأطراف
المعالج الفيزيائي سولمون برهانو، مسؤول قسم إعادة التأهيل البدني في مكتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر بحلب تحدث لـ “سبوتنيك” عن الفروق بين من بتر طرفه بالحرب أو من بتر طرفه بعد مرض عضال أصابه فهي بالنسبة للحالات المرضية تنطوي على استعداد نفسي تبعا لما يواجهه الجسد من تدهور على مدى أشهر وسنوات قبل أن يتطور الأمر لمرحلة البتر، ويضيف: “المصابون بالمرض لا تشبه حالتهم أصحاب البتر الرضي، وفي حالات البتر الرضي أيضاً تختلف الحالة حيث توجد فروقات بين مبتوري الأطراف بسبب حادث سيارة أو حوادث مدنية مثلاً وبين بتر بإصابة حرب فعملية البتر الجراحية بحادثة السيارة ستكون بنوعية جيدة بينما حالات البتر بإصابة حرب تكون بشكل سريع”.
ويعتقد أنه بالحروب تزداد أعداد الإصابات وبسبب الوقت الضيق قد لا يتسع للأطباء المسعفين تطبيق المعاير المناسبة التي تتيح إعطاء نتيجة وظيفية مناسبة، علاوة عن إن حصول البتر بشكل سريع ودون وجود خبرة للجرّاح بهذه الحالات تختلف النتيجة الوظيفية أيضاً.
الدعم الاجتماعي
كان الوصول منذ العام 2015 صعب جداً ومع تحسن إمكانية الوصول مع قدرة الوصول مع تسجيل إصابات من الريف من مخلفات الحروب والألغام، لقد سجل المركز (723) مستفيداً من خدماته من كانون الثاني لغاية تشرين الأول من العام 2021 و(2296) مستفيداً من عام 2019 ولغاية تشرين الأول من العام 2021 مع استمرار المركز برعاية أصحاب الإصابات والإعاقات الجسدية.
وعن انخفاض في عدد المراجعين لاسيما انحسار المعارك في الكثير من المناطق السورية تروي الطبيبة جزماتي: “لم نلحظ تراجعاً أو انخفاضاً في الحالات على العكس هناك طلب متزايد بسبب تحسن إمكانية الوصول، وتحسن الإمكانية الإنتاجية للمركز، بالإضافة إلى كونه يغطي المنطقة الشمالية من سورية”.
بالتوازي مع ذلك تحرص اللجنة الدولية على تقديم رعاية شاملة وتولي اهتماماً بجانب الصحة النفسية والاندماج الاجتماعي عدا عن المشاريع الصغيرة وهذا ما حوّل حياة الشاب أنس على تحقيق أشواط في حياته في هذا الجانب تقول ناتالي نيامكبا مسؤول الصحة النفسية والدعم النفسي في اللجنة الدولية بحلب للصليب الأحمر في حديثها لـ سبوتنيك:
“تخفيف التوتر النفسي من أبرز أهداف الدعم النفسي، وتقديم هذه الخدمات بشكل عام، وللسوريين بشكل خاص بعد معاناة شديدة مع الحرب وخسائرهم العديدة ومعها خسارة الطرف، نعمل على رفع درجة الوعي عن طريق جلسات توعية بالصحة النفسية، هناك مستفيدون يحتاجون جلسة واحدة أو حالات بحاجة إلى متابعة ضمن عيادات نفسية متخصصة لتقديم الخدمات اللازمة”.
ومع كل ذلك يتجه المستفيد رقم (1) في مركز التأهيل البدني في حلب إلى هدفه بخطى واثقة يشعر أنه ومع كل فريق العمل يعملون لصناعة أطراف صناعية، ويبذلون أقصى جهدهم بعمل إنساني لا حدود لقيمته، هو عمل يغير حياة إنسان ويحول حالته من عجز إلى قوة.
المصدر: سبوتنيك عربي